يعد جهاز المخابرات في أية دولة تحترم نفسها ومكانتها ودورها الوطني والإقليمي والدولي ، وبخاصة المتقدمة منها ، معيارا لقوة الدولة ومدى مقدار صحة قرارات قيادة البلد العليا ، التي تزود بها تلك القيادة من معلومات وتقديرات مواقف ، وما يخرج عنها من نتائج دراسات وتقارير إستخبارية وتوصيات، تتخذها في ضوء معلومات جهاز المخابرات، كونه الأكثر أهمية من بين كل الأجهزة الأمنية مجتمعة، من يمتلك معلومات متعمقة وغاية في السرية عن كل مايحيط بأمن الدولة المحلي والأقليمي والدولي من مخاطر، وعلاقاتها مع محيطها الاقليمي والدولي، بل أن معلومات كل الأجهزة الأمنية الأخرى لاتعادل من حيث القيمة الإستخبارية والستراتيجية النوعية في أهميتها سوى 20 – 25 % من قيمة المعلومات الخطيرة التي يحصل عليها جهاز المخابرات من مصادره السرية والعلنية ومن محطاته والمتعاونين معه على حد سواء، ومن قوة تأثيره على مصادر القرار.

ومن أخطاء أغلب رؤساء الدول وملوكها ، بينهم دول كبرى ، مثل الولايات المتحدة، أن الرئيس أو قائد الدولة ملكا أو أميرا، يتجاهل أحيانا ما يتخذه جهاز مخابراته من توصيات وما يقدمه له من معلومات ثمينة، تعد حصيلة إختراقاته وجهده الإستخباري المتفاني ، واذا برئيس الدولة أحيانا ، وربما بتوصية من سكرتيره أو مدير مكتبه المقرب منه، فإنهم لايطلعون الرئيس أو الملك أو الأمير ، على تلك المعلومات ، وهناك في بعض الاحيان ما يشبه حالات “عدم الوئام” وربما ” الخصومة” بين مدراء الأجهزة المخابراتية وسكرتير الرئيس أو مدير مكتبه، وكل يريد أن يظهر نفسه أنه الأقوى مكانا والاكثر قربا من الرئيس ، ولم يعط البعض من قادة الدول آذانا صاغية، لقرارات أجهزة المخابرات بالقدر الكافي الذي تحمله من مخاطر، وبالتالي تكون قرارات الرؤساء مرتبكة ، وتنعكس سلبا أحيانا على مستقبل بلدانهم ، وتعرض أمن تلك الدول لمخاطر جسيمة في أحيان كثيرة ، وبخاصة التي تتعلق بقرارات الحرب والسلام، وينبغي أن تكون قرارات الحرب أكثر إتزانا وبعد نظر ، بدل التسرع في إتخاذ القرارات والتسبب بكوارث وحروب تعود على تلك الدولة بأضرار بالغة نتيجة عدم تقدير الموقف بصورة صحيحة وعدم حساب العواقب الناجمة عن قرارات متسرعة وغير مدروسة.

وكان قرار الحرب الأمريكي على العراق في عام 2003 وحتى نهاية التسعينات ، إحدى تلك الكوارث الكبيرة ، التي تورطت فيها الولايات المتحدة بإستهداف العراق ومن ثم غزوه ، في سابقة دولية خطيرة، تجاوزت فيها قرارات مجلس الامن والشرعية الدولية ، نتيجة قرارات متهورة ، تحت ذرائع لم تكن تبرر اتخاذ قرار احتلال بلد واستباحة دولته خارج كل قرارات الشرعية الدولية ، وما أعقبته من نتائج وخيمة على الولايات المتحدة وعلى شعب العراق والمنطقة من تبعات عرضت مستقبل شعوبها ودولها لأزمات كبيرة ، تركت آثارا مأساوية لايمكن تحملها، وربما لم يكن قرار وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الـ (سي آي أي) لديه مثل هذه التوجهات ، بل كانت قرارا الرؤساء الأمريكان بدفع إسرائيلي وضغوط صهيونية وبمعلومات مضللة من عملاء ومأجورين محليين يحسبون على قوى معارضة منقسمة على نفسها تتحكم فيها ولاءات ونزعات أنانية ضيقة ، ولم يكن لها وزن مؤثر ، كما أشرتها المخابرات الامريكية اكثر من مرة ، وبتقارير سرية وعلنية ، من أن المعلومات التي زودتها بها بعض الجهات هي مضللة وغير صحيحة، وربما تحدث البعض عن إشارات عن مواد كيمياوية تستخدم للصناعات المدنية العراقية ومعامل الاصباغ زودت الولايات المتحدة بها العراق في بداية الحرب مع ايران وبموافقة من رامسفيلد الذي كان مديرا لأحد تلك المصانع ، وفي عام 1983 قابل رامسفيلد صدام حسين وأكد له موقف الولايات المتحدة الداعمة للحرب ضد ايران، وقد عبر المسؤولون العراقيون وقتها عن «سرورهم البالغ» لزيارة رامسفيلد التي « رفعت العلاقات العراقية الاميركية الى مستوى جديد» على حد تعبيرهم..وفي 2001 جرى تعيين رامسفيلد وزير للدفاع في عهد بوش الأب، الذي يعرف تفاصيل ما كانت عليه العلاقة مع العراق.

وقد تجاهل رؤساء أمريكا وبخاصة بوش الأب والابن التقارير الإستخبارية للسي آي أي ، عن عدم وجود قدرات كيماوية ونووية عراقية تهدد أمن المنطقة، كما يشاع، وتجاهل مثل تلك التقارير هي من تركت صانع القرار الامريكي يتخبط في قراراته ويعرض مستقبل شعبه للمخاطر، كما أن قرارات ترامب الاخيرة عام 2020 خلال فترة الانتخابات وحتى ماقبلها لم تنظر بعين الإعتبار الى ماكانت تقدمه له المخابرات الأمريكية (السي آي أي) من نصائح وتوصيات ، وكان ترامب يوجه اليها التهم بين فترة وأخرى ويذكرها بإخفاقاتها في حرب العراق وهي من كانت وراء توريطه في غزو العراق ، بالرغم من أن كل التقارير تؤشر أذاك أن المخابرات المركزية الامريكية في فترة بوش الأب والإبن لم يكن لديها خططا بهذا الاتجاه ، على الأغلب ، وهي كانت تعد أية مغامرة بغزو العرق مغامرة غير محسوبة النتائج وتعرض الأمن القومي الأمريكي لمخاطر جسيمة، وتعد فترة الرئيسين الامريكيين جيمي كارتر 1977 – 1981 ورونالد ريغان الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة للفترة من 1981 إلى 1989 من أكثر رؤساء الولايات المتحدة حكمة وتعقلا، وكانت علاقات العراق وكثير من دول المنطقة معهما في أحسن حال، لكن عهد رئاستي بوش الاب والابن بعدهما هي الأسوا. فقد تولى جورج بوش الأب حكم البلاد بين 1989 و1993، واشتهر بتجييشه تحالفا دوليا لشن حرب دامية ضد العراق عام 1991، لتحرير الكويت، جاءت بعده بيل كلينتون ، الذي حكم البلاد بين 1993 و2001، واشتهر بفضيحة مونيكا لوينسكي.. أما جورج بوش الابن فقد حكم البلاد ولايتين متتاليتين بين 2001 و2008، غزا أفغانستان ثم العراق برفقة حليفه البريطاني توني بلير، وأسقط نظام صدام حسين، ويرى المحللون أن سياسته جرّت العالم نحو إضطراب مستمر.

وينطق الحال على تجاهل دور المخابرات في العراق في الخطوة المتسرعة وغير المدروسة ، التي إتخذها العراق في آب عام 1990 في إحتلال الكويت، إذ كان قرارا أحاديا ، إتخذه الرئيس بمعزل عن جهاز المخابرات العراقي، ولم يستشر الجهاز في وقتها ، بخطوة خطيرة من هذا النوع، وتفاجأ صباحا بأن القوات العراقية دخلت الكويت ، ولم يوضع حتى جهاز المخابرات قبيل ساعات من إتخاذ القرار في حالة إنذار قصوى ، أو يعتمد على نصيحته ربما ، قبل القيام بتلك الخطوة المتسرعة وغير المحسوبة عواقبها هي الأخرى، كما يؤكد قادة كثيرون من قادة الجهاز ، ووقع الرئيس صدام حسين تحت حالات تضليل أمريكي من خلال السفيرة كلاسبي ، التي لمحت له أو لنقل أوحت اليه ، بأن الولايات المتحدة لن تتدخل اذا ما غزا العراق الكويت، أو ستغض النظر عن خطوة كهذه، مما شجعته بصورة غير مباشرة ، على إتخاذ هذا القرار غير المنطقي ، بالرغم من أن كل نصائح جهاز المخابرات العراقي كان يحذر من أن هناك مخططا لإستدراج العراق لإتخاذ قرارات غير محسوبة النتائج ، وكان بمحطة واشنطن ونيويورك وفي دول غربية مهمة كفاءات وشهادات عليا وعقول تمتلك إمكانات كبيرة من القدرات والمعلومات المتعمقة عما يجري التخطيط له من توجهات أمريكية خطيرة تجاه بلدهم ، برغم محاصرة تحركاتها من قبل دوائر السي آي أي ، وكان لديها علاقات على مستوى عال مع شخصيات أمريكية وغربية مرموقة مختلفة ، تزودها بمعلومات غاية في الأهمية عن تحركات ونوايا الولايات المتحدة وخططها للاجهاز على العراق، وسعيها لتدمير قدراته العسكرية والصناعية ، بل أن الولايات المتحدة قدمت عبر شخصيات عربية ودولية مرموقة عروضا للعراق قبل إحتلاله عام 2003 ، لكي يتفادى تدمير قدراته ، وتغيير مسار بعض قياداته بشكل آخر ، مع المحافظة على شكل النظام السياسي العام، بدون أن يمس به ، لمجرد إجراء ترتيبات داخلية عليا ، ليكون بمأمن من أي أذى أو تدمير لقدراته، ولم يتم الرد على أغلب تلك الدعوات والعروض المغرية ، أو تم رفضها بالمجمل ، وقد أدى تجاهل نصائح جهاز المخابرات العراقي وعدم تقديم أغلب المعلومات أو العروض الأمريكية التي يرسلها لتصل الى الرئيس بكوارث مأساوية ، تسبب بضياع مستقبل دولة ومنجزاتها التي حققتها طوال 35 عاما برمشة عين، وكان للعراق جهاز مخابراتي ، يعد من أكثر أجهزة دول المنطقة قوة ومنعة ، وهو الذي كان يتسم بأن لديه انضباطا عال وقدرات وكفاءات خارقة ، وكان يحسب للعراق ألف حساب، إذ كان هذا البلد مصدر التوازن الاقليمي والدولي ومصدر إستقراره قبل التسعينات، بل أن جهاز الإستخبارات العسكرية العراقي لم يكن يمتلك حتى خارطة عسكرية او مدنية عن الكويت وكيفية تقدم قطعاته خلال إحتلاله لها ، وقد تم طلب تلك الخرائط من جهاز المخابرات ، بعد أيام من دخول قطعاته فيها وهي ، أي قوات الحرس الجمهوري نفسها كانت قد تفاجأت بدخولها الكويت ، ولم يعرف أغلب قادتها العسكريين تطورات ماحصل.

ولم يكن حال دول في المنطقة ومنها عربية ، بأي حال أحسن من حال العراق في إهمال بعض قادتهم لنصائح وتقديرات الموقف لأجهزة مخابراتهم ، وكان هناك ” تخوف غير مبرر” من أغلب زعماء المنطقة من رؤساء أجهزة مخابراتهم ومن قياداته العليا، بأنها ربما تطمح الى أن تزيحهم عن العرش ، أو أن يكون لها موقع مهم في سلطة القرار العليا ، وبخاصة الأنظمة السياسية التي تعتمد المقربين من عشيرتها ، بأنهم يبقون مصدر قلق للرؤساء والملوك والأمراء بأن ينقلبوا عليهم في يوم ما، وحصل هذا الأمر في دول خليجية وفي العراق أكثر من مرة، وأزيح مدراء أجهزة مخابرات عن مناصبهم، وابعد الكثيرون ، نتيجة مخاوف من هذا النوع.

وفي ختام هذا الإستعراض لابد وأن نؤكد حقيقة بالغة الأهمية ، وهي أن تعدد الأجهزة الإستخباراتية في دولة واحدة وتعدد مصادر القرار ، يشكل إضطرابا في نظامها السياسي ويظهر ضعفها وعدم قدرتها على إتخاذ القرار المناسب والصحيح، وأي بلد يعاني من تعددية السلطة والقرار وتعددية أجهزته الأمنية والاستخبارية وتعدد ولاءاته ، وعدم التنسيق فيما بينها، فأن الأمر ينعكس بآثاره الخطيرة على مستقبل البلد ، ويظهر تشتت القرار وتعدد مصادره، وفي هذا ضياع لهيبة الدولة ووحدة قرارها ، وبالتالي يضيع مستقبل الدولة بين الأجهزة الأمنية والإستخبارية المتعددة الولاءات والمفتقرة الى التنظيم ووحدة الهدف والتوجهات، ولهذا فإن قرار جهاز المخابرات يفترض أن يبقى هو الأقوى والأكثر إعتمادا عليه في كل الأحوال، فهو الجهاز الذي يفترض أن يكون الأكثر ولاءا للوطن وللدولة والأحرص على مستقبل أجيالها، وفي بودقته تصب كل المعلومات وتقديرات الموقف ويوحدها لإرسالها بتقرير موقف موحد الى القيادة العليا وحسب درجة أهميتها في سلطة القرار وموقعها ضمن دستور الدولة.. ويعمد أغلب رؤساء الدول وقادتها الكبار الى أن يتم إيكال رئاسة جهاز المخابرات الى شخصيات غير مرموقة أو ممن ليس لديهم مخاوف منها، وهي من تنفذ أوامرهم، ولا تشكل مصدر قلق لتلك القيادات في المستقبل، وهو ما إستدعى تغيير أغلب قيادات الجهاز كل أربع سنوات، أو أقل، ضمانا لعدم ترك الفرصة أمام مدير جهاز المخابرات ليكون له دور مؤثر في سلطة القرار، وغالبا ما يتم إيكال تلك المهمة في الأعوام الاخيرة، الى شخصيات لاترتبط بصلة قرابة عليا بالرئيس الأعلى أو الملك أو الأمير، وفي أكثر الاحيان يتم اختيار شخصيات مغمورة أو ليست بذات الشهرة المثيرة للقلق لدى قادة تلك الدول، وبخاصة في دول المنطقة.

Source: Independent Press Agency