نزار عبد الغفار السامرائي
وضع جيرارد جينيت تجنيس النص على غلاف الكتاب احد العتبات الأساسية باعتباره وحدة من الوحدات الجرافيكية او مسلكا بين المسالك الاولى في عملية الولوج ال نص ما ، فهو يساعد القارئ على استحضار افق انتظاره. من هنا فأن تجنيس الكاتب جابر محمد جابر لكتابه الجديد بكونه ” قصص قصيرة جداً” يضعنا امام فناً من فنونا السرد، وجد له ساحته وأركانه وخصائصه التي تميزه عن غيره من الفنون السردية الأخرى ولاسيما القصة القصيرة، واختلف النقاد في تحديد اركان القصة القصيرة جدا فمنهم من يحددها بـ”القصصيّة – الجرأة – وحدة الفكر والموضوع – التكثيف”، ومنهم من يذهب الى تحديدها بـ”الحكائيّة – الوحدة – التّكثيف – المفارقة – فعليّة الجملة” أمّا آخرون فيرون ان الأركان المُهِمّة هي”أركان تتعلّق بالجانب البصريِّ أو الطبوغرافيّ، أو بالجانب التّركيبيّ، أو بالجانب البلاغيّ، أو بجانب القراءة والتقبل، أو بالجانب السّرديّ، أو بالجانب المعماري”. ويحدد جميل حمداوي الأركان الثابتة للقصة القصيرة جدا بـ: القصصية، والحجم القصير جدا، والتكثيف، وفعلية الجملة، والتراكب، والتركيز، وانتقاء الأوصاف، والصورة الومضة…
ومع تعدد الرؤى لعناصر القصة القصيرة جدا الا اننا نتفق أولا على انها قصة، وقصيرة ، تعتمد الايجاز والتكثيف باللغة، إضافة الى الوحدة، والمفارقة والرّمزُ والتّناصُّ والاختزال. ويحذر النقاد من الاستسهال في كتابة القصة القصيرة جدا ، فيعبر الكاتب خلدون الدالي، وهو كاتب معاصر من اليمن عن تخوُّفه على هذا النوع القصصيِّ من التّشويه، وهو يشير الى أنَّ صفحات التواصل فسحت المجال لانتشار هذا النوع الأدبيِّ كالنّار في الهشيم، فاستسهل البعضُ الكتابة، ولم يلتزموا بخصائصه وشروطه، فجاء الكم الهائل من النّصوص لكتّاب مغمورين أشبه بالشّذرة القصصيّة، أو الخاطرة أو مجرّد خربشات.
وحتى تكون القصة قصيرة جدا، يولي الكتاب اهتماما كبيرا للمستهل، فيكون مدخل القصة قويا مؤثرا يدفع باتجاه الحدث بشكل مباشر دون الحاجة الى الكثير من الكلام. كما يبرز أيضا أهمية العنوان باعتباره العتبة الأساس للدخول الى النص، والكشف عما يليه.
ومن العنوان كونه العتبة الأخرى التي تطالعنا على غلاف الكتاب، نبدء قراءتنا لمجموعة الكاتب جابر محمد جابر القصصية، والتي عنونها بـ”بئر برهوت”،.. ولا نجهد كثيرا في البحث عن معنى العنوان اذ يطالعنا الكاتب به في احدى قصص المجموعة التي حملت العنوان نفسه.
تقول القصة :
جاء رئيس التحرير، الى القاعة الكبيرة، نادى بـاسمي، طلب مني ان اصطحب أحد المصورين لعمل تحقيق استقصائي عن بئر برهوت. لم اكن أعلم أنه بئر جهنم، ويسمى أحيانا البئر السوداء،تسكنه الافاعي، والطيور الغريبة وعمقه (375) قدم، مع هذا ذهبت الى محافظة الحيرة في اليمن، ولازلت هناك..
في القصة يعرفنا القاص ببئر برهوت بأنه ” بئر جهنم، ويسمى أحيانا البئر السوداء،تسكنه الافاعي، والطيور الغريبة وعمقه (375) قدم”. ورغم ان المعنى المعجمي لبئر برهوت يتحدث عن مكان حقيقي في اليمن، الا ان الكاتب استعار من المعجم الديني رمزية البئر المعبرة عن المكان المكروه والذي يتجنبه الناس. وهذا الرمز الاستعاري لعنوان المجموعة يجعلنا امام رؤية الكاتب للحياة التي يعيشها، وهو في القصة لا يخبرنا أن البئر في اليمن ولكن يتجاوز ذلك بالإشارة الى ذهابه الى محافظة الحيرة في اليمن، لاكمال التحقيق الذي طلبه رئيس التحرير، فنعلم ضمنا ان البئر موجود بأرض اليمن. ومن الايجاز أيضا ان الكاتب لم يشر الى انه صحفي ولكن من طلب رئيس التحرير نعلم مهنته، وهذا ما يتطلبه النص في القصة القصيرة جدا.. الفراغات التي يملأها المتلقي بفك شفرة الإشارات المقدمة داخل النص. كما ان القاص ينهي نصه بشكل صادم ومفاجيء بعبارة “ولازلت هناك”.. ورغم انه يسبق هذه العبارة بالإشارة الى ذهابه لليمن الى أننا نجد ان هذا الإنتقال المكاني ليس بالضرورة انتقالا ماديا جسديا، بل هو تعبير رمزي لما تشعر به الشخصية في القصة والتي تتحدث بضمير الأنا. فهل بقي السارد عالقا في بئر جهنم؟! ان ما يطالعنا في القصص الأخرى يجعلنا نشعر كأن الكاتب حصر شخصيات قصصه في بئر برهوت فالفاعلين يشعرون دوما بالألم، والمعاناة، والفقر، والحزن، وينحشرون في زاوية الهّم ما يمكن ان نؤل البئر بأنه تلك الحياة التي تعيشها الشخصيات على ارض الواقع في أي مكان كانت.
ومن العنوان نلج النصوص بحثا عن الخيط السري الذي يجمعها، فالنصوص المتعددة يمكنها ان تشكل خطابا جامعا لرؤية الكاتب حيث يدل بعضها على بعض. ومع تصفحنا لبقية القصص نجد ان الكاتب يشي بنفسه في قصة بعنوان “قصص فاضحة” حيث يقول “منذ اكثر من عشرة أيام، وهو قلق، يحاول كتابة قصة، يسرد فيها، كل ذكرياته العشقية، ومغامراته العاطفية، كنت استمع اليه، وهو يسرد قصصه، بلغة مسرحية وصوت يمتزج بالحزن والانفعال أحيانا، كان ينتظر مني، رأيا مباشرا، وهو لم يدرك أنني لم أعد معنيا، بأن أوضح أي شيء لأي أحد،ثمة رغبة تحاصرني،أن أترك أحلامي السرية، تعيش ترفها الفكري، بعيدا عن اللصوص والغرباء، هو يعلم أنني لا استدرجه، لأثير أسئلتي الفاضحة، لم أعد أذكر،التقاطي لقصصه،لأنه لم يكتبها بعد..” ورغم ان الكاتب يسرف في وضع الفواصل بين الجمل حتى تلك التي تستدعي ان تمتد بشكل متصل، الا اننا نلاحظ أنه لم يربط الجمل بحروف العطف وهذا ما يحسب لكاتب القصة القصيرة جدا، فهو ينتقل من جملة الى أخرى، بالشكل الذي يحقق له الايجاز معتمدا على تكرار الأفعال في النص.. وفي هذا النص يضعنا السارد امام شخصيتين الأولى “هو” شخص مجهول لا نعرف عنه شيئا غير محاولة كتابة قصة، قصة واقعية يسرد فيها مغامراته، وهنا تدخل الشخصية الثانية التي تمثل السارد نفسه، الذي يستمع الى “هو” وكأنه يستمع الى نفسه. ورغم ان الكاتب هنا يشير الى الاخر بضمير الغائب الا اننا نذهب الى انه كان في حالة اتصال ذاتي فيتحدث عن نفسه بضمير الغائب، في محاولة ذاتية لتقييم ما يكتبه، ولكن في الاخر نجد أنه لم يكتب شيئا.. وهذا ما يجعلنا نذهب الى أن السارد يناقش نفسه ربما بصوت مسموع بشأن مشروع قصة جديدة لم يستطع كتابتها. وما يجعلنا نرجح ذلك هو ما يرد في النصوص الأخرى من أسماء صريحة ترتبط بالحدث الأساس، ولكن دون تعريف واضح بها، ما يجعلنا نذهب الى انها لاشخاص يعرفهم الكاتب مثل ” خضير طالب الفلسفة الذي يبيع الثلج” و ” صديقي علاء عاشور”، “عماد غني”،”اختي التي أحب ،ام عمار” فهل كان الكاتب يحكي لمحات من سيرته الذاتية وضعها على شكل ومضات قصصية؟ ولاسيما أنه غالبا ما يستعمل في مستهل السرد ” كان ، كنت ، كنا” ، إضافة الى شيوع السرد بصيغة الأنا ولاسيما في مستهل القصص “اختبأت في دهاليز عينيها ..”، ” في ليلة ماطرة كان قلبي قد فرّ خارج الخدمة” ” كنا صبية وفتيان “،” كان بيتنا في محلة السراي”، ” انا لست سعيدا”، ” قلت لصديقي”، “حين كنت صغيرا” ، “ساعود بقوة”،”قلت لها”، ” انا رجل بعيد عن الشبهات”… بينما تأتي الأنا بشكل صريح في عناوين قصتين هما “أنا” ، و” أنا وشبحي”، وهكذا في قصص أخرى حيث يتكرر السرد بصيغة الأنا لتضعنا امام تأويل النصوص بأنها تتحدث عن الكاتب نفسه، (ربما يخلّ هذا شيئا ما برمزية السرد) فالفاعل في النص هو نفسه السارد، حتى عندما يكون الفعل منسوبا الى الآخر، فالسارد هنا هو من ينقل لنا رؤيته الى الحدث، أي أنه يبأر الحدث من حيث يشاهده هو، وبالتالي يعتمد السرد على شيئين أولهما تكثيف اللغة وما ساعد الكاتب في ذلك كونه شاعرا يكتب قصيدة النثر، وثانيهما المفارقة التي تحملها خاتمة القصة رغم ان بعضها جاء محملا بعبارات أيديولوجية مباشرة لا تتناغم مع شعرية النص مثل “لا بأس ان اموت شهيدا من اجل الوطن”، ” سأسمح لرصاصات الغيم، ان تفترش أحزاني وأنا أعزف لحن الخلود لوطني”، ” بل عند أصحاب الكروش المنتفخة، من أرباب السوابق،سواء كانو سياسيين ام رجال دولة منهوبة “، هذه المباشرة في اللغة برأينا تخل بمسار السرد ومتطلبات القصة القصيرة جدا والتي تتطلب كما اشرنا في البداية المفارقة والرمز والتناص.
فالرمزية في القصة القصيرة جدا هي ابرز ما فيها حيث يختزل ذلك مسار السرد ويدفع بنا الى النهاية مباشرة في لحظة تصدمنا وتكسر افق التوقع، حيث تبقي المفارقة ورمزية النهاية المجال مفتوحا امام التأويل.
ما يجمع قصص المجموعة بمجملها مجموعة المتقابلات التي تتضمنها مثل:
أنا —- هو
نحن —- هم
الموت — الحياة
الفقر —- الغنى
البؤس — السعادة
الحب — الكراهية
إضافة الى الواقع — الافتراضي.
حيث الواقع هو ما ينقله السارد عن حدث شارك به فعلا، او مرَ به وشاهده بشكل مباشر. اما الافتراضي فهو الفعل المتخيل، الذي يبنيه وفق رؤيته للحياة.
يبقى ان نشير الى ان الكاتب وفي غمرة انشغاله بالسرد وتوضيب قصص المجموعة فاته التشابه او تكرار الحدث في قصتي “صناديق الخوف”، و”دموع الثلج” حيث جاء المستهل واحدا في كليهما ” من وراء شرفة الامنيات، اطلت فتاة، في غاية الموت، ترتشف كأس السعال” تصرخ بأنفها” صناديق الخوف ص47 ، دموع الثلج ص56 ولا ادري ان كانت احداهما مسودة للاخرى، ام الثانية اختزال للاولى.
خلاصة القول ان الكاتب جابر محمد جابر استطاع ان يقدم لنا مجموعة من القصص القصيرة جدا، تتناول الكثير من الاحداث والرؤى باختزال وايجاز في السرد لا يخل بالمعنى الذي يريد ان يوصله الى المتلقي، الذي يشعر انه امام سيرة متكامله تشكلها مجموعة الاحداث في القصص المتنوعة.
Source: Independent Press Agency