هارون الرشيد.. والبرامكة..ما أشبه الليلة بالبارحة!!

يروي الدكتور عبد الجبار الجومرد ، وهو من مؤرخي العراق المخضرمين في مرحلتي الخمسينات والستينات ، وتولى أول وزارة خارجية بعد إستقلال العراق عن بريطانيا عام 1958 ، يروي في كتابه المثير: ( هارون الرشيد .. حقائق مريرة عن عهده وخلافته )، يروي الباحث الضليع في تتبع أحداث تأريخ العراق والعرب والمسلمين ، الدور الفارسي الخبيث في عهد هارون الرشيد ، ببث الأحقاد والضغائن على كل ماهو عربي، حتى ضد كبار قومهم وسياسييهم ، ومن بلغوا منازل رفيعة في العلوم والفلسفة وحفظ مكانة الإسلام، وكيف كان يحيى البرمكي يعيّـر هارون الرشيد بالعرب وبالجمال التي يركبونها في حلهم وترحالهم، في إسلوب يستهزيء بهم ، فينبري هارون الرشيد برغم حجم الثقة والدعم الكبير الذي أولاه ليحيى البرمكي وأولاده فيقول لهم قاصدا رد الإهانة : ” هذه الجمال هي التي أبادت ملككم ووطأت أرضكم، وصنع العرب من جلودها سياطا ضربوا بها أسلافكم..” في تذكير منه لمعركة القادسية ، وما حققه العرب من بطولات في فتح بلاد فارس وإرغامها عنوة على الدخول بالإسلام، وإن لم يسلموا داخل قلوبهم..!!

ما أشبه الليلة بالبارحة..وما يجري في العراق اليوم من حملة إعلامية شعوبية شرسة تنطلق أبواقها من بغداد، للأسف الشديد، ضد العرب وقادتهم والعمل على الحط منهم ، والإستغراب من مجيء القادة العرب الى العراق، كما كان يجري التهكم بهم من قبل البرامكة واشباههم في عهد هارون الرشيد، وبنفس الطريقة والإسلوب ومضمون الخطاب ، الذي كان سائدا عبر قرون من التاريخ.. !!

ومازالت ” نكبة البرامكة” ، كما يشير المؤلف، في ثنايا كتابه الضخم ، تذكرنا بأنها أكبر خطوة خطاها هارون الرشيد لوضع حد لتحكم البرامكة في سلطة الدولة وهيمنتهم على مقدراتها، وهم في جلساتهم الخاصة كانوا يتحدثون بالفارسية، لكي لايفهم العرب ماذا يتحدثون عنهم وما ينصبون لهم من دسائس حقد وضغينة ونيل من العرب، كلما مر ذكرهم على بال!!

وبالرغم مما أضفاه الدكتور عبد الجبار الجومرد في كتابه الضخم على هارون الرشيد ، وهو الضليع بتعقب أخبارهم ومؤامراتهم، ومدى ما أعطاه الرشيد للبرامكة من ثقل كبير في تسيير شؤون الدولة وأمور الحكم ، وثقة هارون الرشيد العالية بهم، واعترافه بفضلهم عليه، لأنه تربى في أحضانهم، وكان يرفض المساس بهم أو الحديث عنهم بسوء ، بأي حال من الأحوال، إلا إنه ما أن أدرك أن هناك من يريد أن يكون هو المهيمن والمسيطر على طول الخط ، ولا يرضون بأي دور لرمز عربي أن يتسيد المشهد ، أو أن يكون له دور في حكم البلاد، حتى تثور ثائرة البرامكة ، وراحوا يرفضون تعيين الولاة العرب، ضمن أقاليم إمبرطورية الرشيد المترامية الأطراف، حتى أدرك هارون الرشيد أن طغيانهم وتحكمهم وصل حدا لم يعد السكوت عنه أمرا ممكنا، وبخاصة بعد إن راح يسمع نقمة العامة عليهم وعلى غطرستهم ، حتى شجع كل الدعوات التي تنال من البرامكة او تظهر عيوبهم على الملأ!!

وإنبرى كثير من شعراء ذلك الزمان، كما يذكر الجومرد ، بأن كانت أبياتهم الشعرية تتحدث عن مظاهر من هذا النوع، ومنهم الشاعر عمرو بن كلثوم العتابي والشاعر ابو نؤاس في هجائهم للبرامكة ويحيى واولاده ، حتى أصبح هجاءهم على كل لسان!!

ويشير المؤرخ الكبير الدكتور عبد الجبار الجومرد الى حقيقة كبرى ، ضمن سرده الطويل ، لما كانت عليها أحوال بغداد، التي حولها هارون الرشيد الى قلعة كبيرة ، أنارت العالم بنورها وعلمها وثرائها وبذخها ومجونها وفنها وإبداعات شعرائها وأعلامها وعلومها الأجلاء، حتى وصف البعض من المؤرخين بأن بغداد كانت أشبه بدولة عظمى ، في عهد الرشيد ، بل هي أصبحت أشبه بعروسة تقلدت أحلى واجمل كنوز الجواهر والدرر ، وكانت منارة الدنيا التي نالت إعجاب العالم كله وأوربا على وجه الخصوص، حتى أهدى هارون الرشيد ملك فرنسا ساعة فريدة ، كانت من أنفس ما قدمه رجالات الرشيد من هدايا لملوك أوربا وقادتها، بعد إن وصل سلطانه الى ممالكهم!!

ذكرني الحديث عن بغداد، وما تتعرض له اليوم من هجمة إعلامية شرسة ضد أي توجه عربي الى إخوته العرب، أو سعي من بعض قياداته لعودة العراق الى حضنه العربي..وتصاعد الدعوات لمقاطعة الدول العربية وعدم إقامة علاقات معها ..لتبقى دول الجوار هي المتحكمة بالعراق ومقدارته..بالرغم من أنها لاتعير لأي عراقي إهتماما يذكر ، حتى لو كان من مواليها الطائعين ..!!

فما أشبه الليلة بالبارحة حقا؟؟ أنها مفارقة القدر العراقي على كل حال!!

Source: Independent Press Agency